الملك رمسيس الثالث يمكن أن نقول عنه بحق أنه آخر الفراعنة المحترمين. بدأ حكمه بنشاط جم أعاد للبلاد حالة استقرارها . و تشهد حروبه و منشآته على عظمته. و لكن .... دوام الحال من المحال . و لو كان رمسيس الثالث دعا الله بحسن الخواتيم لما انتهى عصره بتلك الكوارث من فساد و رشاوى و سرقات أدت إلى تدهور أحوال المواطن المصري المعذب منذ أقدم العصور . و يبدو أن الحكومة التي اختلط عندها الحابل بالنابل في أواخر عهد رمسيس الثالث لم تجد مخرجًا من سوء الأحوال إلا أن تأمر المواطنين بشد الحزام . و لبى المواطنون الأبرياء و ظلوا يلبون و يلبون إلى أن طفح بهم الكيل فقد أصبحوا يستجدون لقمة العيش . و تلك هى آفة الشعب المصري لا يثور أبدًا إلا من أجل لقمة العيش . يحتملها في فمه حتى و إن كانت ملطخة بالعار و الذل و المهانة . ميراث تركه لنا أجدادنا و لو فتح أي منا وصية أجداده سيجدها معنونة بـ : أبنائي القناعة كنز لا يفنى . لا تثور أبدًا أبدًا أبدًا ما دمت تجد قوت وجبتك الحالية أما الوجبة التي تليها فدعها على الخالق . و نحن نطبق وصية أجدادنا بحذافيرها .
و بالفعل لم يثر أجدادنا القدامى إلا من أجل لقمة العيش حيث يقول جدي في مذكراته الشخصية أنه كان يعمل هو و جدك في بناء مقبرة الملك رمسيس الثالث في وادى الملوك في طيبة . و كانوا يتقاضون أجورًا عينية تتمثل بشكل أساسي في الحبوب و الدهون و ذلك في الأسبوع الأول من كل شهر.
يقول جدي : في العام الـ 29 من حكم رمسيس الثالث و في الشهر الثاني من تلك السنة العجيبة مرت ثلاثة أسابيع دون أن نتقاضى تمويننا الشهري . و تقدمنا بشكوى جعلت المسئول يصرف لنا كمية من القمح . و حمدنا الله على الكفاف . و لكن ساءت الأحوال أكثر و أكثر و لم تعد الحكومة تصرف لنا حتى هذا الكفاف .
و يبدو أن صراخ أبى و أباك عندما كانا صغيران و اشتد عليهما الجوع يبدو أن ذلك قد ضايق أجدادنا كثيرًا فجهروا بالشكوى و لكن لا أذن لمن تنادى . و يبدو أن أبى و أباك قد ماتا من الجوع أمام أعين جدينا – بالطبع تحرج جدي من ذكر هذا و لكنني أشعر أنها الحقيقة . و هنا و في الشهر السادس من تلك السنة المشئومة تجمع جدي و جدك و جد صاحبنا على قلب رجل واحد وقرروا الثورة – لا تتسرع و تفهم خطأ ليس ثورة بالمعنى المفهوم و إنما إضراب أي التوقف عن العمل لبعض الوقت حتى يتم لهم صرف رواتبهم العينية . و بالطبع تم تخفيض تلك الرواتب إلى أقل من النصف لكل عامل .
و في الشهر التاسع من تلك السنة الغريبة تأخر التموين إلى ما يقرب من نصف الشهر . و من منطلق الجوع الشديد أضرب أجدادنا عن العمل مرة أخرى
و حدث مصادفة أن كان عمدة طيبة الطيب الورع يمر في منطقة العمل و رأى العمال المضربين فصرف لهم جزء من رواتبهم . و أقسم لهم أنه يعطيهم من أمواله الخاصة و أن ما يفعله سيؤثر على ميزانيته الشهرية . و طلب منهم أن يستكملوا العمل حتى يرسل لهم الملك رواتبهم من خزانة الدولة .
و يبدو أن عمدة طيبة قد أطلق عيونه بين العمال حتى يخبروه مسبقًا عن أي إضراب قد يخططون له . وهو للأسف لم يدرك أن إضرابهم كان وليد لحظة الجوع أي لا خطة لهم في ذلك . المهم يبدو أن عمدة طيبة كان يريد أن يحتاط للأمر و يأخذ حذره حتى لا يمر بمكان الإضراب مصادفة مثلما حدث في المرة السابقة .
هنا توقفت مذكرات جدي و يبدو أن الأمر لم يكن بيده فإما أنه مات من الجوع أو من الضرب .
عزيزي القارىء كان هذا بالفعل أول إضراب يقوم به العمال في مصر القديمة بل و في العالم بأسره ، و السبب لقمة العيش . فتحية لأجدادنا الذين أورثونا ميراث الإضراب و لكن ........ على استحياء . و عجبي .]